
لم يكن استهداف رئيس اركان المقاومة الشهيد هيثم الطبطبائي مفاجئا، باعتباره الهدف الاكثر ملاحقة من قبل اكثر من جهاز امني غربي، يتعاون بشكل وثيق مع الاستخبارات الاسرائيلية، اضافة الى ثلاثة من كبار القيادات العسكرية والامنية، التي لا تزال تشكل “القنطرة” لعبور من تبقى من الجيل المؤسس في المجلس الجهادي، محمد حيدر، طلال حمية وخليل حرب، الى الجيل الجديد.
واذا كانت الاسباب وراء وجود الشهيد ومساعديه في مركز غير مستحدث، بل ومكشوف منذ العام 2021 على الاقل، غير معروفة وغير مفهومة في ابعادها الامنية والمنطقية، بانتظار انتهاء التحقيقات الداخلية في حزب الله ، لأخذ العبر من “الهفوة” الامنية غير المعتادة من قبل الطبطبائي المعروف بالرجل “الظل”، لكثرة الحرص على اتخاذ تدابير الحماية، فان الاستعدادات لليوم التالي لم تعد تستبعد اي سيناريو. ولم تكن قيادة المقاومة تنتظر تهديد وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس امس، بالتحرك عسكريا في لبنان من “أجل نزع سلاح حزب الله، ما لم يتخل الأخير عن سلاحه بحلول نهاية العام الجاري”، لادراك خطورة المرحلة التي قد تتضمن الذهاب الى حرب جديدة اكثر عنفا.
ووفق مصادر مطلعة على اجواء حارة حريك، لا يعتبر حزب الله اغتيال الشهيد الطبطبائي محاولة اسرائيلية لاختبار نواياه او قدراته، بعد اعلان الشيخ نعيم قاسم التعافي بعد عام على انتهاء الحرب، وانما جزء من سياق الحرب المفتوحة على كوادره وعناصره، في اطار استراتيجية “السحق” المستمرة للقضاء على بنيته العسكرية، والامنية، والثقافية، والاجتماعية. وعندما يتحدث الشيخ قاسم عن حرب وجودية، فالامر ليس مجرد شعار، وانما واقع يتجسد يوميا، حصارا داخليا وخارجيا، وحرب مفتوحة بتغطية اقليمية ودولية.
واذا كانت “اسرائيل” تروج لنظرية تفيد بان عملية الاغتيال تمت بموافقة اميركية، لمجرد توفر الهدف، وليست مرتبطة باي تصعيد ممنهج، فان هذا الكلام قد يكون جزءا من عملية تضليل لخطط معدة مسبقا، ومتفق عليها بين واشنطن “وتل ابيب”. وما يحصل مجرد تمهيد لما هو أسوأ، تقول تلك الاوساط، خصوصا ان الخديعة التي حصلت عشية اغتيال السيد حسن نصرالله، وكذلك قبيل الهجوم على ايران، كانت بالتضامن والتكافل بين رئيس حكومة العدو بنيامين نتانياهو والرئيس الاميركي دونالد ترامب، والمهل المعطاة راهنا، وتحديدها برأس السنة قد تكون ايضا مضللة.
وما نقله بالامس وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي الى المسؤولين اللبنانيين، لا يدعو ايضا الى التفاؤل، لجهة القلق من النوايا الاسرائيلية تجاه لبنان وغزة ، وكذلك سوريا. وعلم ان الوزير المصري لا يحمل اي ضمانات محددة، لكنه سيعمل على دمج الافكار المصرية، مع مبادرة رئيس الجمهورية جوزاف عون الاخيرة، بعد حصوله على “مباركة” رئيس مجلس النواب نبيه بري عليها، وبعد التشاور مع حزب الله حولها، لمحاولة ايجاد ثغرة يمكن من خلالها خرق جدار “التعنت الاسرائيلي”، الذي لا يزال يقدم الحلول العسكرية على ما عداها، باعتبارها جزءا من العقيدة الامنية لليمين الاسرائيلي، المقبل على انتخابات قد تحتاج الى المزيد من “سفك الدماء”، لتعزيز الامساك بمقاليد السلطة.
ولعل ما كتبته صحيفة “هآرتس الاسرائيلية”، يعد اكبر دليل على حاجة نتانياهو لانجاز ما، بعدما اخفق استراتيجيا ضد “اعداء” “اسرائيل”. وفي هذا الاطار، اشارت الصحيفة الى انه “خلافاً للإنجازات التكتيكية، فقد قادنا نتنياهو إلى خسارة استراتيجية على الصعيد السياسي – العسكري. مكانتنا كـ “الابنة المدللة” في واشنطن تآكلت لصالح السعودية، ومكانتنا في العالم في حضيض تاريخي. حماس تضررت، لكنها لم تُصفّ.. وحزب الله لم يستسلم ولم يتجرد من سلاحه. هو يرمم بناه التحتية ويعود ليكون تهديداً للجليل، رغم تصفية رئيس أركانه. ولكن فشل نتنياهو الأكبر يكمن في الجبهة الإيرانية، تقول “هآرتس”، هناك لم نزل أي شيء، فإيران لم تستسلم، وهي غير مستعدة لأي رقابة على مشروعها النووي، وما زالت تنتج الصواريخ البالستية بوتيرة عالية… بكلمات أخرى، من منظار سياسي – عسكري، وجدنا أنفسنا في وضع حرج. نتنياهو فشل في إخضاع أي عدو من أعدائنا، وبقيت جميع التهديدات على حالها. فهل هذا نصر مطلق؟ لقد جلب الشخص الأحقر في تاريخ الشعب اليهودي هزيمة استراتيجية”.
وفي هذا السياق، لن تغير النصائح المصرية الكثير في واقع الامور، لان المطلوب ضغط يمارس على “الاسرائيليين” عبر الاميركيين، وحتى الآن لا توجد “بضاعة” صالحة للتسويق في واشنطن، بانتظار ان تتبلور افكار اميركية جديدة، بعيدا عن “الاملاءات الاسرائيلية”. وراهنا لا يرى ترامب ضرورة لتعديل في مقاربته، طالما ان “اسرائيل” تحقق مبتغاها بالقوة ودون اي اثمان، ويعتقد ان الضغط على الواقع اللبناني سيؤدي حتما الى تقديم التنازلات المطلوبة، انطلاقا من الانقسام الواضح في الموقف الداخلي، والوضع الصعب الذي يمر به حزب الله، كما صرح مؤخرا.
هذه المناخات، المعززة “بالحج” الديبلوماسي الى بيروت، والتي تتوج بزيارة البابا، وبعده العودة المرتقبة لمورغان اورتاغوس، لا تدفع الى الاطمئنان، لان “اسرائيل” ومعها الولايات المتحدة قد تستغل الحراك الدولي والاقليمي، لتنفيذ “مفاجآت” من النوع الذي يفوق قدرة لبنان على تحمل تداعياته، خصوصا ان ديبلوماسي اوروبي نقل تحذيرات واضحة للمسؤولين اللبنانيين، بعدم التعامل مع “الرسائل” الاميركية القاسية الى قيادة الجيش بخفة، لانها تفتح “الطريق” امام رفع الغطاء الاميركي عن استهداف المؤسسة العسكرية من قبل “الاسرائيليين”، الذين نجحوا في وضعها بخانة “العمالة” لحزب الله، واقنعوا دوائر فاعلة في واشنطن بانها استثمار خاسر.
في الخلاصة، منسوب المخاطر يبدو مرتفعا، لا يوجد شيء حتمي حتى الآن، لكن درجة الحذر بلغت ذروتها. التعويل راهنا، على نجاح الضغط العربي في اقناع ترامب للحد من اندفاعة نتانياهو نحو التصعيد. وكذلك فان التوتر قد ينخفض اذا حصلت انفراجة في العلاقات الاميركية- الايرانية، والا لا مجال بان تتراجع “اسرائيل” دون ان تدفع ثمنا باهظا مقابل عدوانيتها. ويبقى ان الثمن المطلوب من لبنان في اي تفاوض باهظ ايضا، وقد عبر عن ذلك بوضوح امس وزير الحرب يسرائيل كاتس، الذي قال صراحة ” أن “إسرائيل” ستنظر أيضا في موقفها بشأن اتفاق الحدود البحرية مع لبنان، الذي يحتوي على عدد غير قليل من نقاط الضعف والقضايا الإشكالية؟!.وهذا ما يضع لبنان امام خيارات “أحلاها مر”.



